02 ديسمبر 2016
تطبيق الشريعة بين داعش وحماس
نهاية شهر يونيو/حزيران الفائت، نُشر مقطع فيديو تظهر فيه مجموعة من المسلحين ينتسبون إلى داعش، وهم يتوعدون بإسقاط حركة حماس، لأنها لم تطبق حكماً واحداً من الشريعة في أثناء حكمها قطاع غزة، ولأن الجهاد لا يكون إلا لتطبيق شرع الله، كما يقول أحد المتحدثين في المقطع، ووصف المتحدث الحركة بأنها تكرِّس حدود سايكس بيكو. وسبق هذا التهديد بسنوات، إعلان عبد اللطيف موسى، زعيم جند أنصار الله، قيام إمارة إسلامية في قطاع غزة، انطلاقاً من رفح عام 2009، مطالباً حماس بالخضوع لحكم الشريعة، قبل أن يُقتل في مواجهة مع شرطة الحكومة المقالة في غزة.
تبدو هذه المحاولة من داعش لنزع شرعية حكم حماس للقطاع محاولةً بائسةً غريبة السياق، لا يستحثها إلا الحاجة الاستراتيجية لتمدد السلفية الجهادية، وفي مقدمتها اليوم داعش، وهي حاجة فعلية، إلا أنها، في حقيقة الأمر، محاولة تنهل من تراث ممتد، لمزايدة بعض التيارات الأكثر سلفية على حركات الإخوان المسلمين، في أخذ أمر تطبيق الشريعة على نحو جذري وجاد، وهو ما يدين، بالأساس، لاستخدام حركة الإخوان نفسها شعار تطبيق الشريعة، في وجه خصومها العلمانيين في المنطقة.
منذ انخرطت جماعة الإخوان المسلمين في العمل السياسي، ضمن إطار الأنظمة السياسية في البلدان العربية، في ثمانينات القرن المنصرم، عملت التيارات السلفية على توجيه نقد حاد لها، على اعتبار أن "الإخوان" يتذرعون بالتدرج في تطبيق الشريعة، لتبرير المشاركة في الانتخابات والعمل السياسي، ولا يكفرون الأنظمة العلمانية التي لا تطبق الشريعة، ويشاركون في برلمانات تحتكر حق التشريع، "فالقوانين، ولو كانت عملاً بشريعة الإسلام لا تكتسب شرعيتها إلا بموافقة المجلس التشريعي عليها"، وهو ما اعتبروه "منازعة لله في مقام الألوهية"، وهذا ما دعا، على سبيل المثال، الشيخ سفر الحوالي، في أحد كتبه الأساسية (ظاهرة الإرجاء في الفكر الإسلامي)، لاعتبارهم من مرجئة العصر الذين نقلوا مذهب المرجئة من الدوائر الأكاديمية إلى منهج العمل والتغيير. بل، من جهة سلفية أخرى، اعتبر الشيخ محمد هادي المدخلي أن "الإخوان" شر من العلمانيين، لأنهم ينسبون تفريطهم في تطبيق الشريعة إلى الإسلام. وفي ما بعد تغيير النظام في تونس، نظمت التيارات السلفية، وفي طليعتها جماعة أنصار الشريعة، مظاهرات للمطالبة بتطبيق الشريعة، منددين بعدم التزام "النهضة" النص على أن الإسلام هو المصدر الأساسي للتشريع، في الدستور التونسي، فيما غيّر بعد 2011 كثير من رموز السلفية الحركية رأيهم، وقبلوا بفكرة التدرج في تطبيق الشريعة ومتطلباتها، وتعرضوا لمزايدة التيارات الجهادية، ما يدل على أن شعار تطبيق الشريعة بهذا الشكل الذي ترفعه الحركات الإسلامية يخلق دوامة لا تنتهي أبدا من التشكيك في جدية تطبيق الشريعة.
جانب من هذه المزايدة بين الحركات الإسلامية يُفهم في إطار الصراع على احتكار تمثيل التوجه الإسلامي بين الحركات السلفية والإخوان المسلمين، إلا أن استخدام شعار تطبيق الشريعة في إطار صراع سياسي هوياتي، يعود بالأساس، ومنذ منتصف القرن العشرين، إلى حركات الإسلام السياسي، كالجماعة الإسلامية في القارة الهندية، والإخوان المسلمين في العالم العربي، خصوصاً بعد بلورة المودودي وسيد قطب فكرة الحاكمية، وهي تعبير عن رفض كل النظام السياسي القائم بحكامه ومعارضيه، سعياً إلى تأسيس واقع جديد يكون الحكم فيه لله. ففي إطار التأكيد على تمايز الهوية الدينية للمسلمين في الهند، ثم في الوقوف بالضد من الأطراف العلمانية في دولة باكستان الناشئة، طوَّر المودودي، ولاحقاً سيد قطب، أفكاراً للتأكيد على أن شرعية النظام السياسي إنما تستمد من الخضوع للشريعة، بعد رفعها صفة المبدأ المطلق الذي يخضع له المجتمع المسلم في كل نشاطه. وهو طرح يخلط لأغراض الصراع السياسي بين مستويين:
يتعلق الأول بإخضاع شرعية النظام السياسي لمبدأ تطبيق الشريعة، على الرغم من كل الاختلاف في تفسير حدودها. ويتمحور الثاني حول سن تشريعات مستمدة من الفقه الإسلامي، وهو أمر قائم بالفعل في جزء كبير منه في دول إسلامية كثيرة، وكما يشير المستشار طارق البشري في تعليق له في الحوار القومي-الإسلامي (الإسكندرية،٢٠٠٧) إلى أن "فقه الشريعة حاكم في الواقع لكل ممارساتنا في العبادات ولكل شؤون الأحوال الشخصية، وهو المرجعية الأساسية لقيم الأخلاق والسلوك". بل حتى بعض القوانين، وإن كان لها مصادر وضعية، فإن الثقافة الفقهية الإسلامية ذات وجود حقيقي، عند تفسيرها من رجال القانون. لذلك، هو يرى أن الاستقطاب حول قضية تطبيق الشريعة يحضر عند من يتعامل معها تعاملاً فكرياً مجرداً، سواء من الإسلاميين أو خصومهم العلمانيين، بخلاف "ما نراه بين رجال الفقه والقانونيين التطبيقيين"، إذ يغيب بينهم هذا الاستقطاب الحاد. وهو ما يؤكد أن الصراع حول تطبيق الشريعة إنما تضخم تحت دواعي الصراع السياسي بين الأطراف الإسلامية والعلمانية، وتم تحويله إلى عامل نقض لكل شرعية الدول القائمة.
وعلى الرغم من وجود محاولات نقدية داخل حركة الإخوان في مصر لهذا المنحى التصعيدي لقضية تطبيق الشريعة، في مواجهة النظام السياسي القائم والأطراف الوطنية الأخرى، وانخراط الحركة في العمل السياسي الوطني، الذي ساهم في تدعيم هذا النقد، غير أن تغلب التيار القطبي داخل الحركة حدَّ من وجود انعكاس إصلاحي عميق لهذه المشاركة المتتالية في النظام السياسي، في مرحلة ما قبل ثورة 25 يناير. وبعد الثورة، شنت الحركة حملة للتصويت بنعم للتعديلات الدستورية، في استفتاء مارس/آذار 2011، في مواجهة القوى العلمانية، وحوَّرت المعركة لتصبح حول حماية المادة الثانية من الدستور، التي تنص على أن مبادئ الشريعة تشكل المصدر الرئيسي للتشريع. ولاحقاً، دعت الحركة مع باقي القوى السلفية لمليونية "الشرعية والشريعة" تأييداً للإعلان الدستوري للرئيس المصري السابق، محمد مرسي، في أثناء انقسام القوى الوطنية حول هذا الإعلان.
وبخلاف هذا الحال، ما يمكن الإشارة إليه من تقدم حقيقي داخل حركات الإسلام السياسي في العالم العربي، تجاه تطبيق الشريعة، هو في الحالة التونسية، حيث تؤكد ممارسة حركة النهضة وخطابها على أولوية "إقامة نظام ديمقراطي حقيقي يضمن الحريات لجميع المواطنين من دون تمييز على أي أساس" كما يصرح راشد الغنوشي، واعتبار الحركة أن "جزءاً مهماً من القانون المدني التونسي ومجلة الأحوال الشخصية مستمد من الشريعة"، أي أن نقاش "النهضة" أصبح يتعلق بجانب الفقه مصدراً للتشريع، وليس باعتبار أن تطبيق الشرع، كمبدأ مطلق، هو مصدر شرعية النظام السياسي، ولم تطالب كتلتها البرلمانية بأي تغيير، يختص بدور الشريعة الإسلامية في التشريع، يختلف عن الدستور التونسي السابق.
ومن دون أن نقع في تعميم شائع على الحركات الإسلامية، يشمل حركات مختلفة السياق والأفكار في شرق آسيا وأوروبا وغيرهما، فإن ما نخلص إليه أن أكثرية تيارات الإسلام السياسي في العالم العربي لم تخرج بعد من التفكير في النظام السياسي من خلال معجم الملة، بدون قدرة على التشريع للجماعة الوطنية، باختلاف مذاهبها وطوائفها وتياراتها، وهو ما يؤول، نهاية المطاف، إلى إمكانية قيام صراع حتى داخل الصف الإسلامي، بحسب تفسير كل طرف معنى تطبيق الشريعة الذي ترتبط الشرعية به.
منذ انخرطت جماعة الإخوان المسلمين في العمل السياسي، ضمن إطار الأنظمة السياسية في البلدان العربية، في ثمانينات القرن المنصرم، عملت التيارات السلفية على توجيه نقد حاد لها، على اعتبار أن "الإخوان" يتذرعون بالتدرج في تطبيق الشريعة، لتبرير المشاركة في الانتخابات والعمل السياسي، ولا يكفرون الأنظمة العلمانية التي لا تطبق الشريعة، ويشاركون في برلمانات تحتكر حق التشريع، "فالقوانين، ولو كانت عملاً بشريعة الإسلام لا تكتسب شرعيتها إلا بموافقة المجلس التشريعي عليها"، وهو ما اعتبروه "منازعة لله في مقام الألوهية"، وهذا ما دعا، على سبيل المثال، الشيخ سفر الحوالي، في أحد كتبه الأساسية (ظاهرة الإرجاء في الفكر الإسلامي)، لاعتبارهم من مرجئة العصر الذين نقلوا مذهب المرجئة من الدوائر الأكاديمية إلى منهج العمل والتغيير. بل، من جهة سلفية أخرى، اعتبر الشيخ محمد هادي المدخلي أن "الإخوان" شر من العلمانيين، لأنهم ينسبون تفريطهم في تطبيق الشريعة إلى الإسلام. وفي ما بعد تغيير النظام في تونس، نظمت التيارات السلفية، وفي طليعتها جماعة أنصار الشريعة، مظاهرات للمطالبة بتطبيق الشريعة، منددين بعدم التزام "النهضة" النص على أن الإسلام هو المصدر الأساسي للتشريع، في الدستور التونسي، فيما غيّر بعد 2011 كثير من رموز السلفية الحركية رأيهم، وقبلوا بفكرة التدرج في تطبيق الشريعة ومتطلباتها، وتعرضوا لمزايدة التيارات الجهادية، ما يدل على أن شعار تطبيق الشريعة بهذا الشكل الذي ترفعه الحركات الإسلامية يخلق دوامة لا تنتهي أبدا من التشكيك في جدية تطبيق الشريعة.
جانب من هذه المزايدة بين الحركات الإسلامية يُفهم في إطار الصراع على احتكار تمثيل التوجه الإسلامي بين الحركات السلفية والإخوان المسلمين، إلا أن استخدام شعار تطبيق الشريعة في إطار صراع سياسي هوياتي، يعود بالأساس، ومنذ منتصف القرن العشرين، إلى حركات الإسلام السياسي، كالجماعة الإسلامية في القارة الهندية، والإخوان المسلمين في العالم العربي، خصوصاً بعد بلورة المودودي وسيد قطب فكرة الحاكمية، وهي تعبير عن رفض كل النظام السياسي القائم بحكامه ومعارضيه، سعياً إلى تأسيس واقع جديد يكون الحكم فيه لله. ففي إطار التأكيد على تمايز الهوية الدينية للمسلمين في الهند، ثم في الوقوف بالضد من الأطراف العلمانية في دولة باكستان الناشئة، طوَّر المودودي، ولاحقاً سيد قطب، أفكاراً للتأكيد على أن شرعية النظام السياسي إنما تستمد من الخضوع للشريعة، بعد رفعها صفة المبدأ المطلق الذي يخضع له المجتمع المسلم في كل نشاطه. وهو طرح يخلط لأغراض الصراع السياسي بين مستويين:
يتعلق الأول بإخضاع شرعية النظام السياسي لمبدأ تطبيق الشريعة، على الرغم من كل الاختلاف في تفسير حدودها. ويتمحور الثاني حول سن تشريعات مستمدة من الفقه الإسلامي، وهو أمر قائم بالفعل في جزء كبير منه في دول إسلامية كثيرة، وكما يشير المستشار طارق البشري في تعليق له في الحوار القومي-الإسلامي (الإسكندرية،٢٠٠٧) إلى أن "فقه الشريعة حاكم في الواقع لكل ممارساتنا في العبادات ولكل شؤون الأحوال الشخصية، وهو المرجعية الأساسية لقيم الأخلاق والسلوك". بل حتى بعض القوانين، وإن كان لها مصادر وضعية، فإن الثقافة الفقهية الإسلامية ذات وجود حقيقي، عند تفسيرها من رجال القانون. لذلك، هو يرى أن الاستقطاب حول قضية تطبيق الشريعة يحضر عند من يتعامل معها تعاملاً فكرياً مجرداً، سواء من الإسلاميين أو خصومهم العلمانيين، بخلاف "ما نراه بين رجال الفقه والقانونيين التطبيقيين"، إذ يغيب بينهم هذا الاستقطاب الحاد. وهو ما يؤكد أن الصراع حول تطبيق الشريعة إنما تضخم تحت دواعي الصراع السياسي بين الأطراف الإسلامية والعلمانية، وتم تحويله إلى عامل نقض لكل شرعية الدول القائمة.
وعلى الرغم من وجود محاولات نقدية داخل حركة الإخوان في مصر لهذا المنحى التصعيدي لقضية تطبيق الشريعة، في مواجهة النظام السياسي القائم والأطراف الوطنية الأخرى، وانخراط الحركة في العمل السياسي الوطني، الذي ساهم في تدعيم هذا النقد، غير أن تغلب التيار القطبي داخل الحركة حدَّ من وجود انعكاس إصلاحي عميق لهذه المشاركة المتتالية في النظام السياسي، في مرحلة ما قبل ثورة 25 يناير. وبعد الثورة، شنت الحركة حملة للتصويت بنعم للتعديلات الدستورية، في استفتاء مارس/آذار 2011، في مواجهة القوى العلمانية، وحوَّرت المعركة لتصبح حول حماية المادة الثانية من الدستور، التي تنص على أن مبادئ الشريعة تشكل المصدر الرئيسي للتشريع. ولاحقاً، دعت الحركة مع باقي القوى السلفية لمليونية "الشرعية والشريعة" تأييداً للإعلان الدستوري للرئيس المصري السابق، محمد مرسي، في أثناء انقسام القوى الوطنية حول هذا الإعلان.
وبخلاف هذا الحال، ما يمكن الإشارة إليه من تقدم حقيقي داخل حركات الإسلام السياسي في العالم العربي، تجاه تطبيق الشريعة، هو في الحالة التونسية، حيث تؤكد ممارسة حركة النهضة وخطابها على أولوية "إقامة نظام ديمقراطي حقيقي يضمن الحريات لجميع المواطنين من دون تمييز على أي أساس" كما يصرح راشد الغنوشي، واعتبار الحركة أن "جزءاً مهماً من القانون المدني التونسي ومجلة الأحوال الشخصية مستمد من الشريعة"، أي أن نقاش "النهضة" أصبح يتعلق بجانب الفقه مصدراً للتشريع، وليس باعتبار أن تطبيق الشرع، كمبدأ مطلق، هو مصدر شرعية النظام السياسي، ولم تطالب كتلتها البرلمانية بأي تغيير، يختص بدور الشريعة الإسلامية في التشريع، يختلف عن الدستور التونسي السابق.
ومن دون أن نقع في تعميم شائع على الحركات الإسلامية، يشمل حركات مختلفة السياق والأفكار في شرق آسيا وأوروبا وغيرهما، فإن ما نخلص إليه أن أكثرية تيارات الإسلام السياسي في العالم العربي لم تخرج بعد من التفكير في النظام السياسي من خلال معجم الملة، بدون قدرة على التشريع للجماعة الوطنية، باختلاف مذاهبها وطوائفها وتياراتها، وهو ما يؤول، نهاية المطاف، إلى إمكانية قيام صراع حتى داخل الصف الإسلامي، بحسب تفسير كل طرف معنى تطبيق الشريعة الذي ترتبط الشرعية به.